تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية
كانت تشتهر سويسرا بحقول الزهور الخلابة لديها، وهولندا بمهرجانات الورود لديها فاليابان كسرت القواعد كالمعتاد وأبدت نظام خاص تنسيق الزهور على طريقتها، هذا النظام ليس مجرد تنسيق عشوائي للورود فكل شيء موضوع لحكمة ما، فماذا تعرف عن فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية ؟
كل شيء في اليابان يخاطب الطبيعة حتى الأغراض المنزلية، هل تجد تلك الجملة عجيبة؟ حسنا، من المحتمل أنك سمعت عما تفعله اليابان في شتى مجالات التكنولوجيا والعلوم وكذلك الفنون، لكن هل تعلم أيضا أن هناك فن خاص عن اليابانيين لتنسيق الزهور؟ فنا كامل له جذور تاريخية وقواعد محددة ابتكره اليابانيون فقط لإضفاء مزيد من الراحة والسلام في منازلهم، كيف هذا؟! دعونا نعرفكم على فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية أو ما يعرف باسم إيكيبانا وهي الطريقة التي يتبعها اليابانيين في تزيين طاولتهم بالزهور منذ مئات السنين. الاختلاف الدائم بين الشرق والغرب لا يتوقف على السياسة والاقتصاد فحسب، فالاختلاف هنا يمتد للجذور التاريخية لحضارة كلا منهما ليشمل أكثر من ذلك، فالمعركة الثقافية الحضارية بينهما تنعكس باستمرار على اللغات ونسقها وطريقة تناولها وتنعكس بشكل واضح في الفنون، فقد يجد بعض سكان أوروبا على سبيل المثال أن اللوحات المرسومة لفنانين صينيين لا تستطيع رسم صور جمالية داخلهم، أو أن العزف الصيني للموسيقى لا يتلاءم مع الأذن الغربية أو مع لحن الأغنية الغربية السريعة. اليابانيون كما عاهدناهم دائما يبدعون في كل شيء حتى في المشهد اليومي لإناء الأزهار الخاص بهم، إناء الأزهار الياباني لا يجب أن يكون مصدرا للرتابة والممل في المنزل، بل يجب تنسيق الزهور بفلسفة معينة تجمع بين الرمزيات التي تربط الإنسان بطبيعته الأم وكذلك إضفاء لمسة من العشوائية المنظمة على الأمر لإظهاره كلوحة جمالية، لكن كيف ذلك؟
كيف نشأ فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية؟
نشئت الإيكيبانا في القرن السابع الميلادي، حيث تمتلك ميراث ديني كبير لدى الشعب الياباني، اللفظ الإيكيبانا في اللغة الياباني تعني الزهور الحية، فتنسيق الزهور دخل اليابان مع البوذي قادما من الصين، فالزهور كانت تستخدم في الصلوات البوذية كقربان يتم التقرب بها روحيا من الوجود الأعلى، كان هناك هندسة خاصة للطريقة التي كان يقدم بها اليابانيين الزهور في صلواتهم، كانوا يضعون الزهور في شكل عمودي مرتفع لأعلى بحيث تظهر الزهور كأنها متوجهة نحو السماء. بدأ الأمر يتطور بفن بدائي في القرن الخامس عشر يسمى (ريكا) وكان يضم نوعين من النباتات في إناء التزيين؛ أولا كانت توضع أغصان أشجار الصنوبر والتي كانت ترمز التربة والصخور، وبجانب الغصن كانت توضع زهرة الأقحوان التي كانت ترمز إلى ماء الأنهار. أخذت (ريكا) في التطور فيما بعد لتحمل جانب فلسفي واصف بشكل أدق للبساطة والرقة في آن واحد، حينما قامت القيادة السياسية آن ذاك بإنشاء مباني للمرافق والخدمات الشعبية ومن ثم كانت تلك الطريقة التي تم تدعيم فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية فيها لتصبح فن شعبي وينتشر أكثر بين الطبقات البسيطة والأقل ثقافة ومن ثم تحتم تبسيط ذلك الفن ليستطيع الجميع ممارسته، أخذ فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية في التطور لاحقا بمرور الزمن ليصبح طقس أساسي من طقوس الشاي؛ مجموعة من الطقوس يتبعها اليابانيين في تقديم الشاي في جلساتهم والتي تم استقائها من المذهب البوذي الياباني، وكان الهدف الأساسي من الترتيب هو حضور اللمسة الطبيعية بقوة والتزامها أقصى درجات البساطة وهذا ما حافظ عليه فن الإيكيبانا حتى اليوم.
ما هي قواعد فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية ؟
في البداية ستحتاج لثلاثة أشياء أساسية ليمكنك تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية :
المزهرية:
يجب اختيار المزهرية بعناية فلكل مدرسة من مدارس فن الإيكيبانا شكل معين تفضله سواء إناء عريض منخفض أو أخر مرتفع أضيق بالأسفل عن الأعلى.. إلخ.
المكونات النباتية:
تتكون عادة من زهرة كبيرة ومرتفعة الطول وأخرى صغيرة نسبية سواء كانت واحدة أو مجموعة وأخير المكون الأعلى ارتفاعا وهو ساق الأشجار، وثلاثتهم يتم وضعهم بشكل غير متماثل بحيث إذا قسمنا الشكل الناتج بخط عمودي من الأعلى لأسفل لا يكون الجانب الأيسر يشبه الأيمن، فالهدف الأساسي إضفاء لمسة الطبيعة على الزهور المرتبة والتماثل ليس متوفرا للغاية في الطبيعة.
منظر الزهور:
عادة لا يتم الاهتمام بذلك الأمر في تنسيق الزهور، لكن عند تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية فالأمر مختلف تماما، فوجود عناصر مختلفة النوع موضوع بترتيب مختلف في الشكل داخل الآناء يعطي عدد كبير جدا من الزوايا التي يمكن بها رؤية الزهور، لذا يجب اختيار منظر يناسب ذوق صاحبه عند وضع الإناء.
طريقة التنسيق:
أما عن طريقة تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية فعليك في البداية وضع المكونات النباتية في ترتيب محدد، فالمزهرية يجب أن تحتوي على ثلاث عناصر أساسية:
- السيقان: توضع سيقان الأشجار الجافة بحيث تكون الأعلى ارتفاعا، والتي تشير للسماء أو للجنة كما يفسرها البعض.
- الزهر الكبيرة: توضع في منتصف الترتيب وتكون متوسطة الارتفاع وتشير عادة إلى الأرض.
- الزهرة الصغيرة: توضع في الأسفل وتكون الأقل ارتفاعا، وتشير إلى الإنسان.
ما هي أنماط تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية في الوقت الحالي؟
لربما يظن البعض أن الشعب الياباني هو مجرد ماكينات تعمل وتعود للنوم لتعمل مجددا، لا شك أن المهارة والتقدم الياباني هو شيء فريد في العالم، لكن الشعب الياباني شعب رقيق للغاية ومحافظ ومحب كذلك لعاداته، يهتم اليابانيون باللمسة الفنية التي تضفي على حياتهم اليومية لمحة جمالية للغاية، لدرجة أن الإيكيبانا هو أمر أساسي للتعلم في المدارس مثله مثل كل ما يعتز به اليابانيون في ثقافتهم. لذا فأن فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية لم يتوقف على ما وصل له بل أخذ في التطور مع مرور الزمن وتنسيق الزهور بشكل عام شيء متطور للغاية فالإيكيبانا وحدها تملك أكثر من 1000 مدرسة وطريقة خاصة في الإعداد، بجانب الإيكيبانا التقليدية يوجد ما يعرف باسم الأنماط الحرة اليوم، والتي لم تعد تشترط اتباع النسق النمطي للإيكيبانا، ساعد في ذلك جدا تيار العولمة الذي تأثرت به اليابان في مطلع القرن الماضي والذي أدخل على فن التنسيق لديهم أنماط مستحدثة وأزهار أوروبية وأخرى لم تزرع على التربة اليابانية، واستخدمت تلك الأنماط الحرة حديثا في مناسبات محددة مثل الحفلات الخاصة على سبيل المثال أو حفلات الزواج.
ما هي الجماليات الرمزية الموجودة في تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية ؟
الإيكيبانا ترمز عادة إلى خلق نوع من التناغم والتجانس مع الطبيعة، لذا فأن التفاصيل الداخلية لإناء الزهور مهمة أيضا بجانب الرمزيات الأساسية، فعلى سبيل المثال من الخطأ وضع أحد الزهور التي تنمو فوق الجبال في الجزء الأسفل من المزهرية وجعلها أسفل زهرة أخرى تنمو فوق المروج المنخفضة، نعم الأمر بهذه الدقة. لذا إذا زرت صديقا يابانيا ذات يوم فلاحظ طريقته في ترتيب الزهور فحتى الإيكيبانا تمتلك مئات من الأنماط داخلها، يمكنك على سبيل المثال أن تجد مزهرية تحتوي على زهور كبيرة مكتملة ذات ألوان زاهية تعلوها الأغصان ويقع أسفلها بعض الزهور البيضاء الصغيرة تلك اللوحة الفنية لها دلالات فالزهرة الكاملة النمو تدل على الماشي وتأكيدا على الرمزية قد تكون ذابلة بعض الشيء، أما الزهور الصغيرة النصف مزهرة وكذلك أوراق نبتة الزهرة تدل على الحاضر، بينما البراعم الآخذ في التفتح على الغصون تدل على المستقبل. هل أذهلتك تلك الرمزية؟! حسنا هناك رمزية أكثر إبهارا، إذا وجدت في ترتيب معين سيقان الأشجار تأخذ شكل متفرع وعشوائي زائد تكون تلك الرمزية دليلا على فصل الربيع، بينما إذا وجدت الزهور منتشرة بكثرة وتنوع يكون ذلك دليلا على فصل الصيف، أما في حالة الخريف فترتيب الزهور سيكون على مسافات بعيدة عن بعضها كما سيكون قليل العدد، وأخيرا فصل الشتاء سيعطي أبسط الأشكال من توزيع الورود بحيث تظهر أكثر خفة وترتيبا بحيث تظهر صورتها النهائية هادئة. ونلاحظ أن الغصون يجب أن تكون متفرعة في شكل عشوائي مريح شبيه بالطبيعة كما يلاحظ أيضا أن من جماليا المنظر الطبيعي الذي تخلقه الإيكيبانا أن الثلاث عناصر النباتية داخل الإناء يشكل ثلاثتهم شكل مثلث فراغي يمكن رصده وتغير شكله باختلاف زاوية الرؤية للإناء.
كيف يختلط الفن بالإنسانية في فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية ؟
اليابانيون شعب محب للطبيعة بطبعه، ولكن حب اليابانيين للطبيعة يأخذ حيزا أكبر من مجرد اهتمام بشري عادي إلى أمر مقدس لديهم لذا فمن اللحظة الأولى التي أدخلت البوذية لديهم فكرة تقديم الأزهار في الطقوس الدينية والأمر أخذ بعدا مقدسا فريدا لديهم، ليس فقط في المعابد بل في الحياة اليومية أيضا. بنظرة بسيطة يتضح أن الرمزية تشكل دورا كبيرا في ثقافة وفلسفة اليابانيين، فالسيقان الطويلة تشير إلى السماء والزهرة الوسطى التي تشير للأرض يطلق عليها لفظة الموضوع والزهرة الصغيرة التي تمثل الإنسان يطلق عليها الذات، وكأن الأمر يلخص صراع الحياة بين المثالية-السماء- والذات والموضوع. وبنظرة فلسفية ثاقبة يتضح يمكننا رؤية صراع ثلاثي بين الخير والشر يتدخل فيه الذات والموضوع للسعي للمثالية والتي لا تنال أبدا إلا بتجاوز الصفات الأرضية الدنيئة والتخلي عن الأطماع البشرية.
الأمر ليس مجرد خلطا للزهور كما تفعل الحضارات الأخرى لتحصل على شكل جمالي، فالجمالي لدى اليابانيين يتمثل في الاقتراب من الطبيعة وعرضها كما هي؛ لذا فأن من الأساسي تواجد أجزاء مختلفة من النبات في ترتيب الإيكيبانا مثل الساق والأوراق، والاهتمام بالجانب الفني الجمالي حاضر بقوة فكل ترتيب معين للإيكيبانا يعطي تدرجا محددا من الألوان الذي يعطي شكلا جماليا مميزا.
الشيء الجميل الآخر في فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية أنه يرتبط بشكل كبير بمبدأ التقليلية؛ وهو مبدأ يسعى إلى تقليل مظاهر الترف ومتع الحياة وردها إلى كلها الأساسي البسيط، فالبهرجة الكبيرة التي نراها في الزهور المرتبة على الطريقة الأوربية غير موجودة وكذلك العدد الكبير جدا من الورود الذي لا يأخذ لا شكلا هندسيا محددا ولا شكل عشوائي طبيعي كما هو فالطبيعة بل ترص جميع الزهور جنبا إلى جنبا بدون معنى لذلك.
في النهاية يمكننا النظر للأمر برمته لتكوين قناعة عميقة بإن شعب يهتم بالزهور وتنسيقها بتلك الطريقة هو شعب يستحق كل الأساطير التي تتحدث عنه، فمن خلال أبسط الأشياء التي تمر على الإنسان في الحياة اليومية، استطاع اليابانيون جعل الأمر عميقا وجماليا أكثر من أي شيء أخر.